الخميس، 9 فبراير 2017

إنسان الصحابة (الإنسان الفائق)

كانت الحضارات القديمة تحتفي بعلوم المادة وفلسفات العقول، فمن ثم كانت تقيم المنشآت الرائعة التي نرى منها الآن عجائب الدنيا السبع وغيرها، ومن الغريب أن أيًّا منها لم يقمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم! فهل كان ذلك يعني قصورا في الرسالة السماوية؟؟!
بينما كان هؤلاء يصنعون ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصنع شيئا آخر، كان يصنع الإنسان ومجتمع الإنسان، ويعتني بعلوم القلوب وتطبيقاتها في الحياة، فمن ثَم كان يقيم الإنسان الفائق وينشئ المعاملات الصحيحة، ويتمم مكارم الأخلاق.
وعندما التقى المنتجان منتج الحضارات المادية ومنتج النبي صلى الله عليه وسلم كانت النتيجة مذهلة، أصحاب الحضارات التليدة والعلوم المتشعبة أعلنوا هزيمتهم الكاملة أمام الإنسان الفائق الذي أنتجه النبي صلى الله عليه وسلم!
في مصر مثلا كانت هناك عصارة سبع حضارات مثلت الحضارات العالمية تقريبا وهي:
1- الفراعنة (مصريون): 3200 - 1786 ق م ثُم 1560 - 525 ق م
2- الهكسوس (آسيويون كان لآلتهم العسكرية تفوق حضاري ملحوظ على آلة الفراعنة): 1786 - 1560 ق م
3- الإخمينيون (طور من الفرس الأوائل): 525 - 332 ق م
4- البطالمة (يونانيون): 332 - 30 ق م
5- الرومان: 30 ق م 324 م
6- البيزنط (طور من الرومان): 324 م - 621 م ثم 630 م 641 م
7- الساسانيون (طور من الفرس): 621 - 629 م
وكانت مكتبة الإسكندرية ومدرستها تمثلان مركز الإشعاع الثقافي في العالم، لقد راكمت الحضارات المتتالية في مصر خبرات ومعارف وعلوما سامقة تبلغ عنان السماء، لكنها ما لبثت أن اهتزت من داخلها، وركعت مذعنة عندما واجهت جلال وهيبة الإسلام، فما هو إلا أن تعرفت مصر على الإسلام حتى غيرت دينها لدين الإسلام، ولغتها للغة الإسلام، وثقافتها لثقافة الإسلام، وصارت هي مركز إشعاع الثقافة الإسلامية في العالم.إذًا ففتح الصحابة لمصر لم يكن مجرد نصر عسكري، بل كان نصرا حضاريا في الأساس؛ لأننا أمام حضارة هزمت حضارة، وحلت محلها في كل التفاصيل من أول الدين إلى اللغة إلى الثقافة إلى البنايات والعمائر.
ويمكننا فهم هذا الفرق إذا قارنّا حالة انتصار التتار البدو بحالة انتصار الصحابة البدو، وكيف أن التتار انتصروا عسكريا وانهزموا حضاريا، فقد دانوا بدين الشعوب التي انتصروا عليها وتكلموا بلغتهم.
وحتى الهكسوس أصحاب القسي المتطورة والآلة العسكرية المتفوقة على آلة الفراعنة مما يشي بتقدم حضاري، حتى هؤلاء حوروا دينهم ليتماشى مع دين المصريين وتماهوا مع ثقافتهم.
بل وحتى الاستعمار الأوروبي ذي التفوق الحضاري الملحوظ لم يستطع في حقبته المباشرة (العسكرية) أن يؤثر في البلاد التي فتحها تأثير الصحابة في البلاد التي فتحوها، فلم تترك الأمة دينها وهويتها لدين المستعمر وهويته لمجرد أنه انتصر عسكريا.
إذًا فهناك فرق بين النصر العسكري المحدود والنصر الحضاري الممتد، فالثاني لا بد أن تصحبه قوة ناعمة هائلة تؤدي إلى هزيمة العدو النفسية ودخوله طوعا في دين المنتصرين وحضارتهم، وهكذا كان نصر الصحابة رضي الله عنهم.
وقد حقق الاستعمار الغربي المعاصر في حقبته غير المباشرة (الناعمة) نجاحات مشابهة لنجاحات الصحابة بما يملكه هذا الاستعمار البغيض من آلة حضارية فائقة وبما يعمل عليه هو وعملاؤه المحليون من تزييفٍ للإسلام وتجهيلٍ للمسلمين بالإسلام الحقيقي.
ولكن ذلك التشابه الظاهري بين النصرين، نصر الصحابة ونصر الاستعمار المعاصر؛ ينطوي على اختلاف كبير بينهما في المضمون، وهذا ليس محل سرد الفرق بينهما ولكننا فقط نريد أن نشير إلى الجانب الإعجازي الذي يهمنا هنا، وهو أن الغرب حقق انتصاره الحضاري بما لديه من منجزات الحضارة المادية الهائلة، وأساليب القمع المبطن الملتوية والخادعة، فكيف حقق الصحابة نصرهم الحضاري الذي يعدّ أكبر وأعمق بكثير من نظيره الغربي، كيف حققوه بلا أي منجز حضاري تقريبا؟!
إنه الإنسان الفائق!!
الإنسان الذي لما رآه الأطباء والمهندسون والساسة والفلاسفة المصريون وعاملوه علموا أن معارفهم وعلومهم وفلسفاتهم وحضاراتهم التليدة فشلت طوال القرون في تحقيق نظيرٍ له، في عدله وإنصافه وصدقه وتجرده وزهده وإحسانه وتقواه، وفي يقينه برسالته في الحياة وتشميره لتأديتها، ونذره نفسَه للجهاد في سبيلها! فمن هنا انهزموا أمام ما رأوه!
لقد رأوا الواقع العملي المدهش لغاية الحضارة!! ألا وهي الإنسان الفائق الذي تتحقق في نفسه السعادة، وفي مجتمعه العدالة، وفي حضارته الاستقامة!الإنسان في أخلاقه الفائقة، وهمته العالية، ورسالته الراقية!
ومما مضى نستطيع فهم المرمى البعيد لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الجمعة: 2).
وقول رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ " مسند الإمام أحمد (8952) صحيح.
ونستطيع أن نعي كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الدرجة العليا في سلم الإيمان للأخلاق: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» صحيح مسلم (2586).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقالة مهمة

الفصحى الدارجة .. زيادات وتنقيحات

بسم الله الرحمن الرحيم الفصحى الدارجة .. زيادات وتنقيحات         الحمد لله!! لقد وفقني الله فعنيت بتعقب المُقابِلات الفصيحة للعبارات ...