الأحد، 5 مارس 2017

الفصحى الدارجة .. زيادات وتنقيحات

بسم الله الرحمن الرحيم

الفصحى الدارجة .. زيادات وتنقيحات

        الحمد لله!! لقد وفقني الله فعنيت بتعقب المُقابِلات الفصيحة للعبارات العامية، طلبا للاستعاضة بالفصحى عن العامية في كل وظيفة من وظائفها التخاطبية، فما زلت حتى أداني ذلك إلى اكتشاف فروق وسمات متباينة بين مستوياتها، مبنية على اختلاف السياق الذي يغلب فيه ورود كل مستوًى من هذه المستويات، الأمر الذي قادني إلى تحليل مستويات فصحى عصر التنزيل، واكتشاف ما أسميته بـ «الفصحى الدارجة»

ما هي الفصحى الدارجة؟

        هي اللغة العفوية الدارجة التي استخدمها أهل عصر الاحتجاج في حواراتهم اليومية المعتادة، فهي لغة معجمية فصيحة، قواعدية ملتزمة، ليست عامية ولا مولدة، ولكنها مع ذلك سهلة مصوغة لتفي بالتعبير عن الأغراض والحاجات الطبيعية للإنسان.
        من ثم فهي أجدر مستويات الفصحى بأن تفي ببناء برنامج تعليمي يصلح لإلزام المجتمع التعليمي بممارسة اللغة العربية دون غيرها في الحديث اليومي، وهو ما يسمى برنامج "التغطيس" ونفضل نحن تسميته بـ "الدرس السلوكي"؛ فإن أول عقبة تواجه هذا الاتجاه أن الفصحى الرسمية الجادة التي نعتاد دراسة قواعدها وآدابها؛ لا تعطينا جملا تخاطبية مصممة لإنجاح الحوار اليومي العادي، وإنما يعطينا نحوُها في الغالب قواعد عامة، وتعطينا آدابُها في الغالب نصوصا سردية جادة لا تسعفنا إلا في المواقف الرسمية كالخطب والمحاضرات.
        إن عربية عصر الاحتجاج الفصحى المعيارية النقية، التي دون العلماء نصوصها وسجلوا حولها الدراسات المختلفة؛ يمكننا تحليلها إلى مستويات أربعة:
1- الفصحى الأدبية: وهي فصحى جادة ذات نزعة أدبية، كعربية القصائد والأسجاع، وهي تتسم بالخيال والمبالغة في جزالة اللفظ وفي تفخيم المعنى، ومما نعده نموذجا لها من السنة النبوية كلام صواحب أم المؤمنين في حديث أم زرع
2- الفصحى العلمية: وهي فصحى جادة ذات نزعة علمية تتسم بالدقة والتقسيم المنطقي، ويعد بعضهم (وإن كان حديثهم عاما ليس منظورا في إلى العصر الذي نتناوله) من سماتها مساواة الألفاظ للمعاني، ولا يطرد ذلك فإن مما نعده نموذجا للفصحى العلمية نصوصا من القرآن الكريم كآيات المواريث وآية الدَّين، ونصوصا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم كحديث الزكاة، فكيف يوصف الوحي بمساواة اللفظ للمعنى ومعين معانيه  ثرٌّ لا يغيض، بل كيف تجدك متساهلا في وصف بلاغة علي رضي الله عنه بهذا إذا تذوقت قوله لما سئل عن ابنتين وأبوين وامرأة: «صَارَ ثُمْنُهَا تُسْعًا» وهو من نماذج الفصحى العلمية فيما نرى، انظر مصنف ابن أبي شيبة (6/ 258)
3- الفصحى الأولية: وهي فصحى جادة ليست بذات نزعة واضحة من هاتين النزعتين السالفتين، ولكنها تشارك ما قبلها في أنها لغة رسمية جادة، يضعها منشؤها في قالب سردي خال من الحوار، وهي الشائعة في خطبهم ورسائلهم وسائر كلامهم في المواقف الرسمية.
4- الفصحى الدارجة: وهي فصحى عفوية سهلة، تعبر عن الحاجات العادية، تتسم بشيوع العبارات الوظيفية، والنصوص الشعبية المسكوكة، من مثل: ألا، وهلم، وويحك، وويك، وإليَّ، ونزال، ووي، ودونك، وإِمَّا لَا، وإمَّا هَلَكَ الْهُلْكُ، وبَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، والجبلَ الجبلْ، وأَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، هلم جرا، وهي تغلب في النصوص الحوارية، ولا سيما إذا كان الحوار بين الرُّفقة البسطاء، الذين لا يتكلف بعضهم لبعض.
        لقد استخدم العرب لغتهم قرونا في التعبير عن حاجاتهم قبل أن تسلس لهم هذه السلاسة، فقد سهلوا التراكيب المرة بعد المرة، واصطلحوا -بعد الممارسة والتذوق- على عبارات وجيزة لتأدية المعاني الكبيرة والدلالات المعقدة، ووضعوا لكل حادثة حديثا، ولكل مقام مقالا.
        إننا إذا خسرنا هذا اللون من لغة سلفنا بغفلتنا عنه؛ فلسوف نظل نعالج ما لا يُستطاع ونحن نحاول استخدام فصحانا الرسمية الجادة في حاجاتنا العادية، ونكسو مواقف حياتنا أكسية لا تناسبها، ونعاني من تصلب الحوارات، وجفاف التعبيرات، ونحدث أولادنا ونسائنا وأنفسنا وأصحابنا بالخطب والمعلقات، فهيهات هيهات.
إن من أصعب ما أنت ملاق في تحديث أبنائك بالفصحى هو ترجمة مظاهر اللغة الدارجة في عاميتك -التي تسبق إلى لسانك- من جمل مسكوكة وعبارات وظيفية؛ إلى مقابلها من الفصحى، لأنك لا تعرف من الفصحى إلا مظهرها الرسمي.
الأمر الذي قد يجعلك تستعيض عنها: إما بالترجمة الحرفية بما يجعلها تشبه الشرح المعجمي الجاف؛ كمن استبدل الأغنية العامية "مَامَا زَمَانْهَا جَيَّا" بالفصحى: "أمك لعلها تأتي بعد قليل"!! فهل تجد طلاوة العبارة الأصلية في هذه الترجمة؟!
وإما بأن تخلي كلامك تماما من النصوص المسكوكة مما يفقد حديثك يسره وعذوبته، ويدخله في باب الشروح المعجمية بجهامتها.
        ولسوف نضطر في نهاية الأمر إلى اصطناع فصحى دارجة نشتقها من فصحانا الجادة، ولعمري لقد كانت لنا في فصحى سلفنا مغناة عن مكابدة ذلك، وقد كان القوم أبصر منا بذلك.

الحاجة إلى الفصحى الدارجة

        لا بد من اكتشاف الفصحى الدارجة لعصر التنزيل، والتنقيب عنها في ثنايا تراثنا اللغوي، وتكميلها باحتذاء ما ظفرنا به منها، بأن ننتج على منواله ما يعبر عن الأغراض التي استحدثت في زماننا، لتكون لدينا فصحى دارجة يسهل استخدامها في التعبير العفوي عند انخراطنا في حوارات الحياة اليومية، حيث اللغة السهلة البسيطة التي لا كلفة فيها، نستخدمها في شئون الحياة الشخصية عند مناجاة الأهل، ومداعبة الأطفال، وممازحة الإخوان، وفي شئون الحياة العادية كمخاطبات الزملاء، والبيع والشراء، وفي تعبيرنا الشعوري عند الرضا والغضب والدهشة هلم جرا.
        إن الفصحى الجادة ستكون عبئا مرهقا على مستخدمها إذا هو تكلف استخدامها في شريف الحاجات ووضيعها، أجل هناك رجال أفذاذ قد يقتدرون على ذلك _ زعموا _ ولكن الذي لا ريب فيه أن عامة المتعلمين لا يستطيعون ذلك، ونحن ههنا إنما ننتج منهج فصحى للأمة، وليس منهجا لأفذاذ الرجال.
        على أن الاقتصار المتعجل على الفصحى الجادة من شأنه أن يفتح الباب واسعا لتغلغل الازدواج اللغوي في المجتمع؛ لأن فصحانا جادة رسمية لا تفي بمتطلبات الإنسان الذي خلق ضعيفا، إن الناس يستطيعون تعلم لغة معبرة عن أغراضهم مساعفة لحاجاتهم، ولكنهم لا يستطيعون تكييف أغراضهم على مقتضى تعبيرات لغةٍ مملاةٍ عليهم، إذ كيف يمكنهم الارتفاع بملاطفاتهم ومنازعاتهم إلى مستوى لغة الخطب والقصائد.
        لا يستطيع المرء في مضايق الحاجات اليومية أن يتلبث بمنطقه ريثما يتكلف التعبير على منوال لغة رسمية جادة، الأمر الذي يجعله يقبل عليها فيما تفي له به من أموره الجادة، كخطبة الجمعة والمحاضرة العلمية والفتوى الشرعية والدرس الجاد، ويعرض عنها إلى عاميته فيما لم تف له به من سائر حاجاته في محاوراته اليومية العادية، وهذا هو الازدواج اللغوي، وهو المرض الذي نعمل على علاجه بمنهج الفصحى هذا.

أهمية الفصحى الدارجة مجتمعيا وثقافيا

        إن أهمية هذا المستوى من الفصحى _ الفصحى الدارجة _ هي كونه ضمانة لشمول الفصحى وكفايتها لجوانب الحياة، سواء على المستوى الشخصي أم على المستوى العام، فالشخص الذي يتقن الفصحى الدارجة يستطيع أن يتكلم الفصحى بداهة وارتجالا، في كافة مواقف حياته العادية والرسمية، وعلى مختلف أحواله النفسية من الاطمئنان أو القلق، ومع ما اتفق له من المتكلمين من الخاصة أو العامة، كل بما يناسبه.
        وقد تبين بما أسلفنا أن وجود هذا المستوى _ الفصحى الدارجة _ يفيد أبلغ الفائدة على المستوى العام بإعطائه للحياة العادية بديلا فصيحا مغنيا عن العامية، وحلا ناجعا لمشكلة الازدواج اللغوي، ومن ثَم فهي ترأب صدوع لغة المجتمع، وتوحد كيانه، وتربطه رباطا وثيقا عميقا بثقافته الحقة، وتنشئ فيه روحا مشتركة تتصل بالرعيل الأول من المسلمين، وتُحسّ من كلام الله تعالى ما كانوا يُحسّون.

أهمية الفصحى الدارجة تربويا وتعليميا

        على أن الأهمية الكبرى لهذا المستوى _ الفصحى الدارجة _ هي في عائدته الجليلة على التعليم، إن التعليم الصحيح للفصحى هو بجعلها لغةً لما نسميه نحن الدرس السلوكي، ويسمونه هم "التواصل الوظيفي" أو "التغطيس"، يعنون أن يتحاور بها وحدها الأولاد مع المعلمين والمعلمات، سواء كان ذلك في موضوع الدرس، أم في أي شأن يعرض من شئون الدراسة، حتى امتداح ولد لنجابته، أو حفز آخر لغفلته.
كذلك في أي حاجة من حاجات الحياة كالحاجة إلى الماء أو الخلاء أو فتح النافذة أو إيقاد المصباح، وعند وقوع أي حدث في بيئة التعليم كضياع الطلاسة أو انقطاع الكهرباء هلم جرا، لا يجوز في أي من هذا ولا في غيره استخدام أي لغة أخرى عامية أو غيرها، مما يدفع المتعلم إلى حفز قدراته كلها للتعلم ليستطيع التعبير عن حاجاته، والتفاهم والتفاعل مع أعضاء المجتمع التعليمي.
        إن التعليم الناجح للغة يستثمر كل هذه الشئون العارضة والحاجات الجانبية لتمرين المتعلم، فيخوض المعلم غمار الأحاديث فيها ويستدعي طلابه إلى الحوار حولها، كما أن الكلام حول هذه الشئون أكثره ضروري لا يمكن تجاهله، فإما البصر به واللقانة فيه، وإما العي عنه والتسرب إلى العامية.
        وعندما ننصرف إلى العامية في درس اللغة تعوز الدرسَ السمةُ العملية، ويصير درسا نظريا أجوف، يعتبر في حد ذاته منهجا خفيا[1] يعلم الأبناء ويربيهم على الفصم بين العلم والعمل، ويؤهل إلى استمرار هذه الروح المنافقة في كل علم يتعلمونه حتى في درس القرآن والسنة والعقيدة والفقه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
        إن استعمال العامية في درس العربية -فضلا عن أنه يفقدنا شرطَ التغطيس الضروري في تعليم اللغات (الدرس السلوكي)- فإنه يجعل من مجتمع التعليم ميدانا خصبا للازدواج اللغوي، ويتخذ في قلوب أولادنا حقولا بكرا يستنبت فيها كافة الازدواجات السلوكية، التي تترسخ بعد ذلك في مجتمعنا الكبير.

أثَمَّ فصحى دارجة؟

        ولكن هل هناك فصحى دارجة في لغتنا المعيارية، التي هي لغة عصر التنزيل؟! الجواب: أجل! ما دامت هذه الأغراض التخاطبية البسيطة الموصوفة آنفا موجودة عند البشر جميعا فهي تستدعي لغة دارجة، إذا فإنه لا بد من وجود فصحى دراجةٍ لعصر التنزيل، ولكن يبقى علينا أن نتعرف عليها.

كيف نتعرف على الفصحى الدارجة؟ 

        هناك خمسة شروط نراها للحكم على اللفظ أو العبارة الوظيفية بأنها تنتمي إلى الفصحى الدارجة، على أن تسميتنا إياها شروطا يقع في باب التسامح، والتحقيق أن أولها فقط هو الشرط الذي لا بد منه، والأربعة التالية يكفي تحقق بعضها، وهذه الشروط هي:

الانتماء إلى عصر التنزيل (عصر الاحتجاج):

بأن يكون اللفظ أو العبارة فصيحا معجميا، أثر عمن يحتج به في لغة العرب.

الانتماء إلى سياق دارج:

كسياق الحوار الطبيعي العادي، في مقابل النصوص السردية الجادة.
وسياق أشعار الرجز، وأشعار الترقيص، في مقابل قصيدة الأدب الجاد.

الانتماء إلى موضوع دارج مثل:

1- الخصومة الشخصية:

كعبارة «مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلاَفِي» وعبارة «مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ» في قول أبي بكر لعمر رضي الله عنهما لما اختلفا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حول إمارة الأقرع بن حابس: «مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلاَفِي، قَالَ: مَا أَرَدْتُ خِلاَفَكَ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ»[2]، ويلاحظ انتماء العبارات إلى سياق الحوار الطبيعي العادي.

المواساة والتهوين:

مثل قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69]، ولتلاحظ كلمة "لَا تَبْتَئِسْ" مع انتماء النص لسياق الحوار.

التلوع:

مثل عبارة: "وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟" في قول معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ ويلاحظ انتماء العبارة إلى سياق الحوار الطبيعي العادي.

التلطف والتملق:

مثل قول جارية من بني مازن للمائح وهي تستقي:
يَا أَيهَا المائحُ دلوي دونكا
إِنِّي رَأَيْت النَّاس يحمدونكا
يُثنون خيرا ويمجدونكَ
أرجوك للخيرِ كما يرجونكا
خُذْهَا إِلَيْك اشغلْ بِها يمينَكا[3]
 ولا تكاد تجد هنا عبارة إلا وهي وظيفية دارجة! ويلاحظ انتماء النص لسياق شعر الرجز.

التدليل:

مثل قول أبي بكر رضي الله عنه في تدليل الحسن بن علي رضي الله عنهما:
وَا بِأَبِي شِبْهُ النَّبِيِّ ... لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيِّ[4]
ولتلاحظ كلمة "وَا بِأَبِي"، كذلك كلمة "يَا حَبَّذَا" في سياقها من قول الأعرابي يرقص ولده:
يَا حَبَّذَا أَرْوَاحُهُ وَمَلْمَسُهْ
أَمْلَحُ شَيْءٍ ظِلُّهُ وَأَكْيَسُهْ
واللَّهُ يَرْعَاهُ لَنَا وَيَحْرُسُهْ
حَتَّى يَجُرَّ ثَوْبَهُ وَيَلْبَسُهْ[5]
ويلاحظ انتماؤهما لسياق شعر الترقيص.

 حكاية المواقف:

والأحداث والذكريات بطريقة عادية (غير مصبوغة بفنيات الأدب الراقي) ، مثل قول راجز من رجاز طيء:
فَزَفَّ رَأْلِي وَاسْتُطِيرَ طَيْرِي
وَقُلْتُ: حَاجَاتُكِ عِنْدَ غَيْرِي
حُقِّرْتِ أَلَّا يَوْمَ قُدَّ سَيْرِي
إِذْ أَنَا مِثْلُ الْفَلَتَانِ الْعَيْرِ[6]
    والأرجوزة كلها في حكاية موقف للشاعر، وتلاحظ كلمتي: "حُقِّرْتِ" و"أَلَّا"، وأن الشاعر قد استخدم عبارتين مسكوكتين «زَفَّ رَأْلِي وَاسْتُطِيرَ طَيْرِي» للتعبير عما يقال عنه في العامية المصرية: اتخضيت، اتنفضت، دا شعري وئف، ويلاحظ انتماء العبارات إلى سياق شعر الرجز، متداخلا مع الحوار.
     على أن الموضوعات الدارجة كثيرة وليس الغرض ههنا استيعابها، ولكن ما مضي تمثيل يمكن به اكتشاف غيرها مما هو داخل في بابها.

بساطة موقف الحوار، وعدم الكلفة بين أطرافه:

الحوار بين أشخاص عاديين

كالحوار العادي بين المرء وذويه، أو بينه وبين أناس معتادين كالأجراء والباعة والموظفين، وذلك مثل حوار الملك مع النسوة، وقد رآهن –للذي كان من أمرهن- غير جديرات بالاحترام، ولتلاحظ فيه كلمة "خَطْبُ" و " حَاشَ لِلَّهِ"، وذلك في قوله تعالى على لسان الفريقين: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51].
وذلك بخلاف الحوار الرسمي في المواقف الخطيرة وبين الأشخاص الكبراء، الذي قد يدخله من التروي والكلفة ما يجعله أقرب إلى الفصحى الجادة، ويمكننا ملاحظة الفرق في حوار نفس الملك مع يوسف عليه السلام: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 54، 55].
الحوار ههنا رسمي يتعلق بتولية منصب من مناصب الدولة من الملك إلى رجل كريم شريف مثار للإعجاب، والحوار هنالك يتعلق بالتحقيق مع نسوة من ذوات الريبة والبهت، فالملك يبدو في حواره مع يوسف عليه السلام مكبرا مجلا، وهو يبدو مع النسوة ممتعطا مستخفا.
ونجد عكس هذا تماما في كلام النسوة في حديث أم زرع، فإن النساء جديرات إذا اجتمعن وتحاورن أن يثرثرن بلغة دارجة، ولكن صواحب هذا الحديث لما انتهين من حوار تعاقدن فيه ألا يكتمن شيئا من أخبار أزواجهن خلصن إلى موقف رسمي، تأخذ كل واحدة منهن فيه دورا تعطي فيه تقريرا عن حال زوجها، فما إن صرن إلى هذا الموقف حتى صار كلامهن سردا لا حوار فيه، واعتمدن الوصف والسجع وحلى الأدب الشائعة لديهن، وكأني بكل واحدة منهن تخشى أن تظهر عليها أختها بفضل بيان وحسن تأليف في هذا المحفل الذي له ما بعده في مجتمع النسوة، عندما يروى الخبر ويحكى قول كل قائلة، فلذا صارت كل واحدة تتأنق في كلامها، وإن هي صدقت في خبرها.

الحوار بين المرء ونفسه

 أو حوار المرء مع نفسه في تفكيره وهواجسه ومراجعاته، وذلك مثل قول الله تعالى على لسان من تمنوا مكان قارون: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [القصص: 82]، ولتلاحظ فيه كلمة "وَيْكَأَنَّ"، وأيضا مثل قول المقداد رضي الله عنه لنفسه: وَيْحَكَ! مَا صَنَعْتَ؟ أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ، فَيَجِيءُ فَلَا يَجِدُهُ فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلِكُ فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ؟[7] ولتلاحظ فيه وكلمة "وَيْحَكَ".

النظير العامي دارج: مثلا

*أ- {مَا خَطْبُكُنَّ} [يوسف: 51]، النظير العامي: إيه حكايتكو؟
*ب- قَالَ الأَنْصَارِيُّ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ! النظير العامي: اكمنو = عشان هو؛ ابن عمتك!/ ما هو ابن عمتك!
*ج- فَأَصْغِ إِلَيْهِ وَقُلْ لَهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ: إِنِّي قَدْ صَبَوْتُ. النظير العامي: ميل عليي[8] وألو بينك وبينو: ...
*د- قَالَتْ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، مَا كُنْتَ فَاعِلًا فَافْعَلْ! النظير العامي: اللي انت عايز تعملو اعملو!

كيف ننتج فصحى دارجة على وَفق التراثية لتكميل التراثية؟

لا نستطيع الجزم بأننا سنحتاج لإنتاج فصحى دارجة مصنوعة لتكميل الفصحى الدارجة الموروثة؛ إلا بعد أن نستكمل المكنز المنشود لهذه الموروثة، ثم نلائم بينه وبين مكنز العامية الدارجة، ثم ننظر إن بقيت فضلة من عاميتنا الدارجة لا مقابل لها من فصحانا الموروثة الدارجة؛ فعند ذلك سنحتاج إلى ترجمة هذه البقية على وفق فصحانا الدارجة الموروثة، لنصنع بذلك عبارات تكميلية من الفصحى الدارجة تغنينا عن العامية، لنتخلص من هذه الأخيرة نهائيا.
ونُرى أننا عندئذ محتاجون لإنتاج عبارة تتحقق فيها خمسة شروط مناظرة للشروط السابقة في الكلام على الفصحى الدارجة التراثية:
1- ذات ألفاظ فصحى معجمية.
2-  تؤدي وظيفة تخاطبية في سياق دارج.
3- الموضوع دارج.
4-  بساطة موقف الحوار، وعدم الكلفة بين أطرافه.
5- ترجمة لعبارة عامية دارجة.
ولعله يكون من الأمثلة المناسبة لذلك الفرض، قول الباعة الجائلين في مواصلات مصر العامة، لتحريض الركاب العائدين إلى بيوتهم على شراء شيء يصطحبونه هدية لذويهم: هَادِي وْرَاضِي وَلَا تْرَوَّحْ فَاضِي!
وترجمتنا المقترحة لننقلها من الدارجة العامية إلى الدارجة الفصحى، هي:
هَادِ الْأَهْلِينَ وَالْأَحْبَابَ رَاضِ



لَا تَقْدَمَنَّ خَالِيَ الْوِفَاضِ



نشر في: شبكة الفصيح



[1] المنهج الخفي مصطلح تربوي يقصد به مجموعة المفاهيم والعمليات العقلية والاتجاهات والقيم والسلوكيات التي يكتسبها المتعلم خارج المنهاج المكتوب بطريقة التشرب ودون إشراف، وذلك نتيجة تفاعل المتعلم مع زملائه ومعلميه والإداريين في المدرسة ومن خلال الأنشطة غير الصفية وبالملاحظة والقدوة.
[2] صحيح البخاري (4845)
[3] لفقته من روايتيه في خزانة الأدب للبغدادي (6/ 205)، ونهاية الأرب (17/ 222).
[4] مسند أحمد ط الرسالة (1/ 213).
[5] الدلائل في غريب الحديث (3/ 1084).
[6] الخصائص (2/ 240).
[7] صحيح مسلم (2055).
[8] صغا إليه: أصغى، وصبا إليه: مال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقالة مهمة

الفصحى الدارجة .. زيادات وتنقيحات

بسم الله الرحمن الرحيم الفصحى الدارجة .. زيادات وتنقيحات         الحمد لله!! لقد وفقني الله فعنيت بتعقب المُقابِلات الفصيحة للعبارات ...